كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هَذَا مَا فَتَحَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ، وَتَارَةً مَعْزُوًّا إِلَيْهِ، وَتَارَةً بِغَيْرِ عَزْوٍ، وَإِنَّنَا نَنْقُلُهُ بِنَصِّهِ، وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِمَا نَرَاهُ نَاقِضًا لَهُ مَعَ الِاعْتِرَافِ لِأُسْتَاذِنَا ابْنِ الْقَيِّمِ بِالْإِمَامَةِ وَالتَّحْقِيقِ (لَا الْعِصْمَةِ) فِي أَكْثَرِ مَا وَجَّهَ إِلَى تَحْقِيقِهِ فِكْرُهُ الْوَقَّادُ، ذَلِكَ أَنَّهُ عَقَدَ فِي كِتَابِهِ (زَادِ الْمَعَادِ) فَصْلًا لِهَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُسَارَى، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الِاسْتِشَارَةِ فِي أَسْرَى بَدْرٍ وَرَأْيَ الشَّيْخَيْنِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَالتَّرْجِيحَ بَيْنَهُمَا قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ- وَالْعُنْوَانُ لَنَا- (التَّرْجِيحُ بَيْنَ رَأْيِ الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ فِي أَسْرَى بَدْرٍ):
وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي أَيِّ الرَّأْيَيْنِ كَانَ أَصْوَبَ، فَرَجَّحَتْ طَائِفَةٌ قَوْلَ عُمَرَ لِهَذَا الْحَدِيثِ: وَرَجَّحَتْ طَائِفَةٌ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ لِاسْتِقْرَارِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ، وَمُوَافَقَتِهِ الْكِتَابَ الَّذِي سَبَقَ مِنَ اللهِ بِإِحْلَالِ ذَلِكَ لَهُمْ، وَلِمُوَافَقَتِهِ الرَّحْمَةَ الَّتِي غَلَبَتِ الْغَضَبَ، وَلِتَشْبِيهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ فِي ذَلِكَ بِإِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى، وَتَشْبِيهِهِ لِعُمَرَ بِنُوحٍ وَمُوسَى، وَلِحُصُولِ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي حَصَلَ بِإِسْلَامِ أَكْثَرِ أُولَئِكَ الْأَسْرَى، وَلِخُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِحُصُولِ الْقُوَّةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْفِدَاءِ، وَلِمُوَافَقَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ أَوَّلًا، وَلِمُوَافَقَةِ اللهِ لَهُ آخِرًا حَيْثُ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى رَأْيِهِ، وَلِكَمَالِ نَظَرِ الصِّدِّيقِ فَإِنَّهُ رَأَى مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ حُكْمُ اللهِ آخِرًا، وَغَلَبَةُ جَانِبِ الرَّحْمَةِ عَلَى جَانِبِ الْعُقُوبَةِ.
(قَالُوا): وَأَمَّا بُكَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّمَا كَانَ رَحْمَةً لِنُزُولِ الْعَذَابِ لِمَنْ أَرَادَ بِذَلِكَ عَرَضَ الدُّنْيَا، وَلَمْ يُرِدْ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَإِنْ أَرَادَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، فَالْفِتْنَةُ كَانَتْ تَعُمُّ وَلَا تُصِيبُ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ خَاصَّةً، كَمَا هُزِمَ الْعَسْكَرُ يَوْمَ حُنَيْنٍ بِقَوْلِ أَحَدِهِمْ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ، وَبِإِعْجَابِ كَثْرَتِهِمْ لِمَنْ أَعْجَبَتْهُ مِنْهُمْ، فَهُزِمَ الْجَيْشُ بِذَلِكَ فِتْنَةً وَمِحْنَةً، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى النَّصْرِ وَالظَّفَرِ وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ.
أَقُولُ: إِنَّ فِي هَذَا الْكَلَامِ عَلَى حُسْنِهِ وَكَثْرَةِ فَوَائِدِهِ مُغَالَطَاتٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، وَبُعْدًا عَنْ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ يَجِبُ بَيَانُهُ لِتَحْرِيرِ الْمَوْضُوعِ، وَإِظْهَارِ عُلُوِّ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَحِكَمِهِ، وَكَوْنِهَا فَوْقَ اجْتِهَادِ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ؛ لِأَنَّهَا كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا صَرَفَ الْمُحَقِّقَ ابْنَ الْقَيِّمِ عَنْ فِقْهِهَا وَبَيَانِ عُلُوِّهَا وَفَوْقِيَّتِهَا إِلَّا تَوْجِيهُ ذَكَائِهِ وَمَعَارِفِهِ إِلَى تَفْضِيلِ اجْتِهَادِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى اجْتِهَادِ عُمَرَ لِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى كَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْمَفْضُولِ مَا لَا يُوجَدُ فِي الْفَاضِلِ أَوِ الْأَفْضَلِ، فَكَيْفَ وَقَدِ اخْتَارَهُ الرَّسُولُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِمُوَافَقَةِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ لَهُ مَا عَدَا عُمَرَ وَكَذَا عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَاصٍّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَهَذَا الْجُمْهُورُ هُوَ الَّذِي كَانَ يُرِيدُ مِنَ الْفِدَاءِ عَرَضَ الدُّنْيَا لِفَقْرِهِمْ، وَحَاشَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَصَدِيقَهُ الْأَكْبَرَ مِنْ إِرَادَةِ ذَلِكَ لِذَاتِهِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي مَقَامِهِمَا إِرَادَتُهُمَا لِمُوَاسَاةِ الْجُمْهُورِ، وَتَعْوِيضِ شَيْءٍ مِمَّا فَاتَهُمْ مِنْ عِيرِ أَبِي سُفْيَانَ، بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ بَلَائِهِمْ فِي الْقِتَالِ عَلَى جُوعِهِمْ، وَعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا الذَّنْبُ مِنَ الْفِتَنِ الَّتِي يَعُمُّ بِهَا الْعَذَابُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ مَعَ وُجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَتَانِ دَلَالَةً وَاضِحَةً تُؤَيِّدُهَا الرِّوَايَاتُ الْوَارِدَةُ فِي مَوْضُوعِهَا وَكَذَا آيَةُ سُورَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنَّ رَأْيَ عُمَرَ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي الْعَمَلُ بِهِ فِي مِثْلِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ مَعَ أَعْدَائِهِمْ فِي وَقْتِ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَأَمَّا رَأْيُ الصِّدِّيقِ، فَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِي الْحِكْمَةُ وَالرَّحْمَةُ الْعَمَلَ بِهِ بَعْدَ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ بِالْغَلَبِ وَالسُّلْطَانِ، وَلَكِنْ كَانَ مِنْ قَدَرِ اللهِ تَعَالَى أَنْ نَفَّذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأْيَ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ يُوَافِقُهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لِلْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ قَصْدٌ دُونَ قَصْدِهِ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ رَأْيَهُ، وَهُوَ إِرَادَتُهُمْ لِلْمَالِ لِحَاجَتِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ إِلَيْهِ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم هَوِيَ رَأْيَ أَبِي بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ رَأْيَ عُمَرَ، وَعِنْدِي أَنَّ أَسْبَابَ هَوَاهُ لِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ:
1- حِرْصُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِرْضَاءِ الْجُمْهُورِ لِعُذْرِهِمُ الَّذِي بَيَّنَاهُ آنِفًا فِي إِرَادَتِهِمْ لِعَرَضِ الدُّنْيَا.
2- تَغْلِيبُهُ صلى الله عليه وسلم لِلرَّحْمَةِ عَلَى الْعُقُوبَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الرَّحْمَةِ إِضَاعَةٌ لَحَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ، وَلَا مُخَالَفَةٌ لِأَمْرِهِ تَعَالَى.
3- رَجَاءُ إِيمَانِهِمْ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ فِي هَذَا الْقَدَرِ أَنْ بَيَّنَ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي التَّغَالُبِ بَيْنَ الْأُمَمِ، وَمَا يَنْبَغِي لِأَنْبِيَائِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ فِي حَالَتَيِ الضَّعْفِ وَالْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ، وَسَائِرِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْحَرْبِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ.
(بَيَانُ مَا فِي كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ مِنَ الْأَغْلَاطِ الَّتِي تُشْبِهُ الْمُغَالَطَاتِ الْجَدَلِيَّةَ):
1- ذَكَرَ أَنَّ الْمُرَجِّحَ الْأَوَّلَ لِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ: اسْتِقْرَارُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ يُرِيدُ بِهِ تَرْجِيحَهُ، وَالْعَمَلَ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَهُوَ غَلَطٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهِ هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْقُرْآنُ، فَكَيْفَ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ الْأَصْوَبُ أَوْ أَنَّهُ صَوَابٌ؟ وَأَمَّا عَدَمُ نَقْضِهِ بِأَمْرِ اللهِ بِقَتْلِ الْأَسْرَى بَعْدَ مُفَادَاتِهِمْ فَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَجَعْلِهِ قَاعِدَةً فِي التَّشْرِيعِ.
وَإِنْ أَرَادَ بِهِ اسْتِقْرَارَ الْأَمْرِ عَلَيْهِ آخِرًا فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا قَدْ كَانَ سَبَبُهُ تَغَيُّرَ الْحَالِ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ بَعْدَ إِثْخَانِ الْأَعْدَاءِ فِي الْقِتَالِ، فَمَنَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِإِطْلَاقِهِمْ مِنْ أَسْرِ الرِّقِّ، إِذَا كَانَ قَدْ أَثْخَنَ فِي الْأَرْضِ، وَأَعْتَقَ الْمُسْلِمُونَ أَسْرَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ بَعْدَ قِسْمَتِهِمْ فَآمَنُوا كُلُّهُمْ، وَتَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُصَرِّحُ بِهِ، بِأَنَّ مَا هُنَا نُسِخَ بِآيَةِ سُورَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا فِي تَسْمِيَةِ ذَلِكَ نَسْخًا مِنْ بَحْثٍ تَقَدَّمَ.
2- الْمُرَجِّحُ الثَّانِي: مُوَافَقَةُ الْكِتَابِ الَّذِي سَبَقَ بِإِحْلَالِ ذَلِكَ لَهُمْ إِلَخْ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ خَطَأً عِنْدَ مَنْ فَسَّرَهُ بِغَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ بَلْ هُوَ خَطَأٌ مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى اسْتِحْلَالِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِإِحْلَالِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ.
3- الْمُرَجِّحُ الثَّالِثُ: مُوَافَقَتُهُ الرَّحْمَةَ الَّتِي سَبَقَتِ الْغَضَبَ وَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا، فَإِنَّ سَبْقَ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى لِغَضَبِهِ لَا يَقْتَضِي أَنْ تُرَجَّحَ الرَّحْمَةُ عَلَى الْغَضَبِ مِنْ عِبَادِهِ وَلَا مِنْهُ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَّا لِمَا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ سَبْقِ لِلرَّحْمَةِ عَلَى الْغَضَبِ، بَلْ كَانَتْ تَكُونُ مَسْأَلَةَ رَحْمَةٍ بِلَا غَضَبٍ، فَالَّذِي أَفَادَتْهُ الْآيَتَانِ الْأُولَيَانِ أَنَّ رَحْمَةَ الْكُفَّارِ بِأَسْرِ مُقَاتِلِيهِمْ ثُمَّ الْمَنَّ عَلَيْهِمْ أَوْ مُفَادَاتَهُمْ فِي حَالِ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَتْ مِنْ شَأْنِ أَنْبِيَاءِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّتِهِمْ، وَلَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ، وَلَا مِنْ أَتْبَاعِهِمُ الصَّادِقِينَ قَبْلَ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ أَتْبَاعَ رَسُولِهِ بِقَوْلِهِ: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [48: 29] وَقَالَ لِرَسُولِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [9: 73] وَمِنَ الْمَعْقُولِ الْمُجَرَّبِ أَنَّ وَضْعَ الرَّحْمَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَغَيْرِ وَقْتِهَا الْمُنَاسِبِ لَهَا ضَارٌّ كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي:
وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالْعُلَى ** مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى

وَمِنَ الْمَثُلَاتِ وَالْعِبَرِ فِي هَذَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَبَاحُوا فِي حَالِ عِزَّتِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ لِأَهْلِ الْمِلَلِ الْأُخْرَى حُرِّيَّةً وَاسِعَةً فِي دِينِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، عَادَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَدُوَلِهِمْ بِأَشَدِّ الْمَضَارِّ وَالْمَصَائِبِ فِي طَوْرِ ضَعْفِهِمْ، كَامْتِيَازَاتِ الْكَنَائِسِ، وَرُؤَسَاءِ الْأَدْيَانِ، الَّتِي جَعَلَتْ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ ذَاتَ حُكُومَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ فِي دَاخِلِ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يُسَمُّونَهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِالِامْتِيَازَاتِ الْأَجْنَبِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ فَضْلًا وَإِحْسَانًا مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ، فَصَارَتِ امْتِيَازَاتٍ عَلَيْهِمْ مُذِلَّةً لَهُمْ مُفَضِّلَةً لِلْأَجْنَبِيِّ عَلَيْهِمْ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ، حَتَّى إِنَّ الصُّعْلُوكَ مِنْ أُولَئِكَ الْأَجَانِبِ صَارَ أَعَزَّ فِيهَا مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ.
4- الْمُرَجِّحُ الرَّابِعُ: تَشْبِيهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِكُلٍّ مِنْ صَاحِبَيْهِ وَوَزِيرَيْهِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- بِنَبِيَّيْنِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ- وَهَذَا التَّشْبِيهُ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْجِيحِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَجْهَيِ الشَّبَهِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا إِنَّمَا كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ عِنْدَنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ وَعِيسَى فِي أَقْوَامِهِمَا فِي مَحِلِّهِ، وَأَنَّ مَا قَالَهُ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ وَمُوسَى فِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، وَلَكِنْ ثَبَتَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى اسْتَجَابَ لِنُوحٍ دُعَاءَهُ عَلَى قَوْمِهِ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [71: 26] وَلِمُوسَى دُعَاءَهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [10: 88] وَرَأَيْنَا الْمُفَسِّرِينَ يَعُدُّونَ مِنَ الْمُشْكِلِ عَلَى قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [14: 36] وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ قَالَهُ قَبْلَ إِعْلَامِ اللهِ تَعَالَى لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَقَالُوا: إِنَّهُ كَاسْتِغْفَارِهِ لِأَبِيهِ الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [9: 114] وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَأْوِيلِهِ: إِنَّهُ فِي الْعُصَاةِ لَا الْكُفَّارِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَمِثْلُهُ اسْتِشْكَالُهُمْ لِقَوْلِ عِيسَى فِي الَّذِينَ اتَّخَذُوهُ وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ مَنْ دُونِ اللهِ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [5: 118] وَقَدْ أَطَالُوا فِي تَفْسِيرِهِ الْكَلَامِ، وَلاسيما وَصْفُهُ تَعَالَى بِالْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فِي مَقَامِ احْتِمَالِ الْمَغْفِرَةِ دُونَ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِنَا أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا عَلَيْهِ السَّلَامُ تَفْوِيضٌ لِلْأَمْرِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا طَلَبٌ وَدُعَاءٌ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُمْ، وَلَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَقَامُ لِبَسْطِ الْكَلَامِ فِي الْآيَتَيْنِ.
وَأَمَّا اسْتِنْبَاطُ التَّرْجِيحِ مِمَّا تَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا مَنْ كَوْنِ إِبْرَاهِيمَ أَفْضَلَ الرُّسُلِ بَعْدَ خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَيَلِيهِمَا مُوسَى فَعِيسَى فَنُوحٌ فَلَا وَجْهَ لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ فِي الطَّرَفِ الْأَوَّلِ أَفْضَلَ مِمَّنْ فِي الطَّرْفِ الثَّانِي، فَإِنَّ مُوسَى فِي الثَّانِي أَفْضَلُ مِنْ عِيسَى فِي الْأَوَّلِ، فَفِي كُلٍّ مَنَ النَّبِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ شُبِّهَ بِهِمَا كُلٌّ مِنَ الصَّاحِبَيْنِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَحَدِ الْآخَرَيْنِ، وَلَكِنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ مَقَامَ الْمُفَاضَلَةِ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي تَفْضِيلِ الصِّدِّيقِ عَلَى الْفَارُوقِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا.
5، 6- الْمُرَجِّحَانِ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ: مَا حَصَلَ مِنَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ بِإِسْلَامِ أَكْثَرِ أُولَئِكَ الْأَسْرَى، وَخُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَانِ إِنَّمَا يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ فِي الَّذِي وَقَعَ كَانَ حِكْمَةً مِنْ حِكَمِ اللهِ فِي قَوْعِهِ كَمَا بَيَّنَاهُ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ الشَّرْعِيَّ الَّذِي نَزَلَتِ الْآيَتَانِ فِيهِ هُوَ مُفَادَاةُ الْأَسْرَى وَتَرْجِيحُهَا عَلَى قَتْلِهِمْ بَلْ نَصُّهُمَا صَرِيحٌ فِي ضِدِّهِ.
7- الْمُرَجِّحُ السَّابِعُ، حُصُولُ الْقُوَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْفِدَاءِ وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذْ مَا يُدْرِينَا أَنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ يَكُونُ مُضْعِفًا لِلْمُشْرِكِينَ، وَصَادًّا لَهُمْ عَنِ الْجَرَاءَةِ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أُحُدٍ وَفِي الْخَنْدَقِ مَثَلًا، كَمَا هُوَ الْمَعْقُولُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَتَانِ مِنْ وُجُوبِ جَعْلِ الْمُفَادَاةِ بَعْدَ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ لَا قَبْلَهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ يُقَالُ فِي هَذَا الْمُرَحِّجِ مَا قُلْنَاهُ فِيمَا قَبْلَهُ.
8- الْمُرَجِّحُ الثَّامِنُ: مُوَافَقَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُرَجِّحِ الْأَوَّلِ وَيُقَالُ فِيهِ مَا قُلْنَاهُ فِيهِ.
9- الْمُرَجِّحُ التَّاسِعُ: قَوْلُهُ: وَلِمُوَافَقَةِ اللهِ لَهُ آخِرًا حَيْثُ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى رَأْيِهِ. اهـ.
وَيَا لَيْتَ شَيْخَنَا وَقُدْوَتَنَا فِي أَدَبِهِ وَدِينِهِ وَعِلْمِهِ لَمْ يَقُلْ هَذَا فَإِنَّهُ عَلَى بُطْلَانِهِ غَيْرُ لَائِقٍ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْدَهُ فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ: وَلِكَمَالِ نَظَرِ الصِّدِّيقِ فَإِنَّهُ رَأَى مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ حُكْمُ اللهِ آخِرًا، وَأَمَّا كَوْنُهُ بَاطِلًا فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ التَّكْرَارِ الَّذِي يَقَعُ مِثْلُهُ فِي كَلَامِهِ كَثِيرًا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْآيَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ صَرِيحَتَانِ فِي أَنَّ رَأْيَ عُمَرَ رضي الله عنه هُوَ الصَّوَابُ، وَوَرَدَتِ الْآثَارُ بِأَنَّهُ مِمَّا وَافَقَ عَلَيْهِ رَأْيُهُ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ هَذَا فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ وَأَقَرَّهُ، وَأَنَّ جَعْلَهُ مَرْجُوحًا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ حُكْمِ الْآيَتَيْنِ مَرْجُوحًا وَهُوَ مُحَالٌ، وَمِنَ اللَّوَازِمِ الَّتِي لَمْ تَخْطُرْ بِالْبَالِ، بَلْ غَفَلُوا عَنْهُ، هَذَا وَجَلَّ مَنْ لَا يَغْفُلُ.
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى لَمْ يَتَغَيَّرْ أَوَّلًا وَلَا آخِرًا- وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ اتِّخَاذَ الْأَسْرَى وَمُفَادَاتَهُمْ مُقَيَّدٌ بِالْإِثْخَانِ كَمَا تَقَرَّرَ بِالْبَيَانِ التَّامِّ، وَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَخْذُ الْفِدَاءِ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ قَبْلَ الْإِثْخَانِ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، بِمَا تَضَمَّنَ عِتَابَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَمَا مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا مِنَ الْحِكَمِ التِّسْعِ أَقْوَى، مِنْ هَذِهِ الْمُرَجِّحَاتِ التِّسْعَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. اهـ.